رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم
عبد الله بن عمر ( المثابر, الأوّاب )
تحدّث وهو على قمة عمره الطويل فقال:
"لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فما نكثت ولا بدلت إلى يومي هذا..
وما بايعت صاحب فتنة..
ولا أيقظت مؤمنا من مرقده"..
وفي هذه الكلمات تلخيص لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين, والذي بدأت علاقته بالإسلام والرسول, وهو في الثالثة عشر من العمر, حين صحب أباه في غزوة بدر, راجيا أن يكون له بين المجاهدين مكان, لولا أن ردّه الرسول عليه السلام لصغر سنه..
من ذلك اليوم.. بل وقبل ذلك اليوم حين صحب أباه في هجرته إلى المدينة.. بدأت صلة الغلام ذي الرجولة المبكرة بالرسول عليه السلام والإسلام..
ومن ذلك اليوم إلى اليوم الذي يلقى فيه ربه, بالغا من العمر خمسة وثمانين عاما, سنجد فيه حيثما نلقاه, المثابر الأوّاب الذي لا ينحرف عن نهجه قيد أشعرة, ولا يند عن بيعة بايعها, ولا يخيس بعهد أعطاه..
* ان المزايا التي تأخذ الأبصار إلى عبدالله بن عمر لكثيرة.
فعلمه وتواضعه, واستقامة ضميره ونهجه, وجوده, وورعه, ومثابرته, على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة..
كل هذه الفضائل والخصال, صاغ ابن عمر عمره منها, وشخصيته الفذة, وحياته الطاهرة الصادقة..
لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا.. وتعلم مع أبيه من رسول الله الخير كله والعظمة كلها..
لقد أحسن كأبيه الإيمان بالله ورسوله.. ومن ثم, كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر الألباب..
فهو ينظر, ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر, فيحاكيه في دقة وإخبات..
_هنا مثلا, كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي.. فيصلي ابن عمر في ذات المكان..
_وهنا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو قائما, فيدعو ابن عمر قائما...
_وهنا كان الرسول يدعو جالسا, فيدعو عبدالله جالسا..
_وهنا وعلى هذا الطريق نزل الرسول يوما من فوق ظهر ناقته, وصلى ركعتين, فصنع ابن عمر ذلك إذا جمعه السفر بنفس البقعة والمكان..
_ بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة, قبل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها, ويصلي ركعتين, وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها.
لكن عبدالله بن عمر لا يكاد يبلغ ها المكان يوما حتى يدور بناقته, ثم ينيخها, ثم يصلي ركعتين للله.. تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله..
ولقد أثار فرط إتباعه هذا, أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت:
"ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله, كما كان يتبعه ابن عمر".
ولقد قضى عمره الطويل المبارك على هذا الولاء الوثيق, حتى لقد جاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول:
"اللهم أبق عبدالله بن عمر ما أبقيتني, كي أقتدي به, فاني لا أعلم أحد على الأمر الأول غيره".
وبقوة هذا التحري الشديد لخطى الرسول وسنته, كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول الله ولا يروي عنه عليه السلام حديثا إلا إذا كان ذاكرا كل حروفه, حرفا.. حرفا.
وقد قال معاصروه..
"لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه, من عبدالله بن عمر"..!!
وكذلك كان شديد الحذر والتحوّط في الفتيا..
جاءه يوما رجل يستفتيه, فلما ألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائلا:
" لا علم لي بما تسأل عنه"
وذهب الرجل في سبيله, ولا يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه:
"سئل ابن عمر عما لا يعلم, فقال لا أعلم"..!
كان يخاف أن يجتهد في فتياه, فيخطئ في اجتهاده, وعلى الرغم من أنه يحيا وفق تعاليم الدين العظيم, للمخطئ أجر وللمصيب أجرين, فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه الجسارة على الفتيا.
وكذلك كان ينأى به عن مناصب القضاة..
لقد كانت وظيفة القضاء من أرقع مناصب الدولة والمجتمع, وكانت تضمن لشاغرها ثراء, وجاها, ومجدا..
🌴ولكن ما حاجة ابن عمر الورع للثراء, وللجاه, وللمجد..؟!❗
دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما, وطلب إليه أن يشغل منصب القضاة, فاعتذر.. وألح عليه عثمان, فثابر على اعتذاره..
وسأله عثمان: أتعصيني؟؟
فأجاب ابن عمر:
" كلا.. ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة..
قاض يقضي بجهل, فهو في النار..
وقاض يقضي بهوى, فهو في النار..
وقاض يجتهد ويصيب, فهو كفاف, لا وزر, ولا أجر..
واني لسائلك بالله أن تعفيني"..
وأعفاه عثمان, بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا.
ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس, وانه ليخشى إذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا نهجه, وعندئذ لا يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا..
ولم يكن في تخلي ابن عمر عنه تعطيل لوظيفة القضاء, ولا إلقاء بها بين أيدي الذين لا يصلحون لها.. ومن ثمّ قد آثر البقاء مع نفسه, ينمّيها ويزكيها بالمزيد من الطاعة, والمزيد من العبادة..
🌸 لقد كان ابن عمر,أخا الليل, يقومه مصليا.. وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا..
_ ولقد رأى في شبابه رؤيا, فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبدالله, ومناط غبطته وحبوره..
*🌺 ولنصغ إليه يحدثنا عن نبأ رؤياه:
"رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة إستبرق, وكأنني لا أريد مكانا في الجنة إلا طارت بي إليه..
ورأيت كأن اثنين أتياني, وأرادا أن يذهبا بي إلى النار, فتلقاهما ملك فقال: لا ترع, فخليّا عني..
فقصت حفصة - أختي- على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبدالله, لو كان يصلي من الليل فيكثر"..
ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه, لم يدع قيام الليل في حله, ولا في ترحاله..
فكان يصلي ويتلو القرآن, ويذكر ربه كثيرا..
_ وكان كأبيه, تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن.
يقول عبيد بن عمير: قرأت يوما على عبدالله بن عمر هذه الآية:
💥(فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوْا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمْ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) )..(النساء)
فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه.
وجلس يوما بين إخوانه فقرا:
💥(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6))..( المطففين )
ثم مضى يردد الآية:
( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)).( المطففين )
ودموعه تسيل كالمطر. حتى وقع من كثرة وجده وبكائه..!!
لمزيد من الواضيع الرائعة يمكنكم الدخول الى
مدونة عالم المعرفة